الأحد، 25 ديسمبر 2016

صناعة الأسرة (9) / الدكتور خالد بن محمد المدني




من مقالات الدكتور خالد محمد المدني 

  

كيف تبني أسرة إيجابية وسعيدة؟ (9)


مازلنا نتحدث عن مؤشرات الأسر السوية وفي إشراقات فرجينيا ساتير حول هذا الموضوع وفي هذه التدوينة سنستمر في الحديث عن تقدير الذات ذلك الوعاء الذي لايراه أحد:
 تقدير الذات: الوعاء الذي لا يراه أحد
      ادعو أفراد أسرتك لعمل هذه التجربة التالية معك، اختر رفيقاً، ثم ليبح كل طرف للآخر عن مشاعره مثل (إنني الآن أشعر بالخوف/الضيق/الحرج/السعادة/...الخ) بعد الانتهاء كل رفيق يشكر رفيقه بدون تعليق أو حكم على ما قيل، وهكذا كل فرد استمع لمشاعر الآخر ليتعرف عليه بشكل أفضل، نحتاج لمزيد من الممارسة لنكسر ثقافة الحرج من مشاركة مشاعرنا بعضنا لبعض. مارس بقدر الإمكان مع أشخاص تثق بهم، الآن، ليقل كل واحد للآخر ما الذي يجعل مشاعره منخفضة أو مرتفعة؟ كنتيجة لذلك بإمكانك أن تجد أبعاداً جديدة مع الأشخاص الذين تعيش معهم كل هذه السنوات وتشعر أنك أقرب لهم، عندما تنتهي من التمرين، أعط نفسك فرصة لتشارك تجربتك مع الآخرين.
      ليس للمولود ماضي عندما يأتي للحياة، ولا خبرة له في العناية بنفسه، ولا معيار لديه لكي يقيّم نفسه، الطفل يعتمد على خبرات الآخرين حوله ورسائلهم عن قيمة نفسه كإنسان، لذا يتشكل تقدير الطفل لذاته في الخمس أو الست سنوات الأولى من عمره حصراً من قبل عائلته.
      عندما يشرع الطفل في الذهاب للمدرسة فعوامل أخرى تبدأ بلعب دور هنا، ولكن الأسرة تبقى الأهم، القوى الخارجية تشرع لإعادة التأثير مرة أخرى على قيمة أو عدم قيمة الطفل لنفسه المتشكلة مسبقاً بالمنزل. فالطفل الواثق من نفسه قد يتجاوز الكثير من مواقف الفشل التي يواجهها في المدرسة أو بين أقرانه، لكن الطفل الذي لديه دونية في الذات قد يمر بتجارب ناجحة ومع ذلك لا يزال يحمل بذور الشك في قيمة نفسه.
      كل كلمة، أو تعبير في الوجه، أو إيماءة، أو تحرك ما، يصدر من أحد الوالدين يعطي الطفل رسالة عن قيمته لنفسه، إنه لمن المحزن أن كثيراً من الآباء لا يعون كم من الرسائل أرسلوها لأبنائهم، أم تستقبل باقة من الورد قدمتها لها ابنتها ذات الثلاث سنوات وتقول: ( من أين حصلت عليه؟ - مع ابتسامة ورقة - جميل منك أن تجلبي لي كل هذا - أين تنمو مثل هذه الأزهار الجميلة؟)، هذه الرسائل تعطي القوة للطفلة عن قيمتها عن نفسها، وبالإمكان كذلك أن تقول الأم (يا لجمالها!) ولكن تضيف نوعاً الصوت المعاتب (هل التقطت هذه الأزهار من حديقة السيدة راندل؟)، ملمحة أن ابنتها مذنبة لو فعلت ذلك، هذه الرسالة ستجعل الطفلة ذات الثلاث سنوات تشعر بدونية في ذاتها وأنها سيئة.
ما هو نوع قيمة الذات الذي تبنيه أسرتك في الأطفال ويعززه الكبار؟ بإمكانك أن تعرف ذلك من خلال التجربة التالية.
 الليلة، عندما جلوس جميع أفراد الأسرة حول الطاولة لوجبة العشاء، لاحظ ماذا يحدث لمشاعرك عندما يتحدث من حولك معك، سوف يتعجبون عندما لا تستجيب لهم، ولكن سوف تفاجأ حينما أقول لك أنه حتى جملة (رجاء مرر لي صحن البطاطا) ستعطيك دفعة معنوية إيجابية أو تأثير نفسي سلبي، ويعتمد ذلك على نغمة صوت المتحدث وتعبيرات وجهه، ومدى شعورك الحسن تجاه نفسك، وكذلك التوقيت (هل قاطعتك هذه الجملة أو تجاهلت حديثا كنت تجريه؟). إذا كانت مشاعرك إيجابية تجاه نفسك ستجد الكثير من الخيارات لكي تستجيب، ولكن إذا كانت مشاعرك متردية ستجد أن خيارات الرد لديك محدودة (انظر الفصل السادس عن التواصل).
 في منتصف جلسة العشاء، أجري تغييراً لوجهة نظرك، استمع لما تقوله للآخرين، حاول أن تكون في موضع الآخرين، وتخيل كيف سيكون شعورك لو كنت مكانهم تستمع لما تقوله، هل سيكون شعورك هو الحب والاحترام؟.
      في مساء الغد اشرح هذه اللعبة لبقية أفراد العائلة وادعهم لمشاركتك، سيكون من المفيد قراءة التمرين بصوت مرتفع قبل أن تطبق هذا مع أسرتك. بعد وجبة العشاء تكلم مع الجميع عن ماذا اكتشفت وكيف شعرت.
      الشعور بقيمة الذات تتألق فقط في الأجواء التي تكون فيها الفروق الفردية مقدرة ومثمنة، عندما يكون عطاء الحب بلا حدود، وترصد الأخطاء للتعلم منها، ويتواجد الحوار المفتوح، وتتميز القوانين بالمرونة، ويتم التحلي بالمسؤولية والقدوة (تزامن الوعد بالإيفاء به)، وتمارس الأمانة، هذا هو نوع الأجواء الموجود في الأسر السوية. إنه ليس صدفة أن أطفال تلك الأسر التي تحمل تلك المعاني عادة ما ينظرون لأنفسهم بتقدير واعتبار ونتيجة لذلك تجدهم محبون ونشيطون وأصحاء وأكفاء.
      وعلى النقيض من ذلك، أطفال الأسر المضطربة عادة ما يشعرون بالدونية، ينشئون مع تواصل ملتو مع الآخرين، قوانينهم جامدة، ينتقدون ما هو مختلف، يعاقبون عند الخطأ، ولا خبرة لهم في تعلم المسؤولية، هذا النوع من الأطفال لديه احتمالية عالية للنمو بشكل مدمر تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين، الكثير من هؤلاء الأطفال اللذين عاشوا في تلك الأسر لديهم شحن مكبوت، إذا كنت قد تعرضت لمثل ذلك أتمنى أنك اتخذت الخطوات اللازمة لتحرير تلك الطاقة.
      هذه الاختلافات في ما يخص قيمة الذات بالإمكان رؤيتها في أعضاء الأسر البالغين، وقلما العائلة تؤثر على إحساس الفرد البالغ بذاته (ولكن مؤكدا هذا يحدث)، ولكن العائلات ذات التقدير العالي للذات أكثر قابلية لخلق أسر سوية وبالطبع الأسر ذات التقدير المنخفض للذات أكثر قابلية لخلق أسر مضطربة، النظام يشرع في تنمية مهندسو الأسرة وهم: الوالدان.
بعد أن قدمنا هذه السلسلة ذو الحلقات الـ9 عن صناعة الأسرة والموضوع مازال متسعاً وكبيراً وقد أُعاود الكتابة فيه لاحقاً أختم بهذا النص الفاخر لفرجينيا ساتير: "بعد سنوات قضيتها بالعمل مع الأسر، وجدت أنه لا يمكنني بعد الآن أن ألوم الوالدين مهما كانت حماقاتهم التدميرية، ولكني أحمل الوالدان المسؤولية لتقبلهم نتائج أفعالهم وأنه كان بإمكانهم أداء شيء مختلف وهذه خطوة جيدة لتطوير وضع الأسرة كاملة، لحسن الحظ، بالإمكان رفع درجة تقدير الذات لأي شخص مهما كان عمره أو كانت حالته، لأن الشعور بالدونية هو أمر متعلم ومكتسب فبالإمكان التخلص منه واستبداله بشيء جديد يمكن تعلمه، وبالإمكان الاستمرار بهذا التعلم من المهد إلى اللحد، لذا لم يفت الأوان بعد، في أي مرحلة عمرية كانت فبإمكان المرء أن يبدأ كيف يتعلم السمو بقيمة ذاته، وأقول ذلك لأنها أهم رسالة أقدمها: هناك دائماً أمل لتتغير حياتك، لأنه بإمكانك أن تتعلم أشياء جديدة، البشر يتطورون وينمون ويغيروا حياتهم كلها، صحيح أنه يصعب علينا التغيير كلما كبرنا في السن وربما أخذنا وقتاً طويلاً ولكن كل ذلك يعتمد على كيفية اختيارنا للطريق الذي نسلكه، إنها خطوة أولى كبيرة أن نعرف أن بإمكاننا أن نتغير ونلتزم بهذا التغيير، قد يكون البعض بطيئون في التعلم ولكننا كلنا قابلون للتعلم.
فرجينيا ساتير بتصرّف ـ تعديل وإضافة د.خالد بن محمد المدني
حاصل على دبلوما العلاج الأسري من هيئة المعادلات الدولية ـ الإنتل باس
  انتهى..

د.خالد محمد المدني

خبير القيادة من المركز الأمريكي للشهادات المهنيّة

رئيس مجلس إدارة منظّمة أكسفورد للتدريب القيادي OLTO.

دكتوراه الإدارة من جامعة السودان الحكوميّة للعلوم والتكنولوجيا

للتواصل مع الدكتور خالد المدني

ch@olto.org