الاثنين، 23 يناير 2017

تكيف (3) / الدكتور خالد بن محمد المدني



من مقالات الدكتور خالد محمد المدني

تكيّف مع الحياة وتعلّم التفاؤل(3)



نواصل في هذه التدوينة بإذن الله الحديث عن التكيّف مع الابتلاءات التي قدّرها الله على عباده وكيف نتصرّف إزائها ونتحرّك لرفعها..وفي هذه التدوينة أتحدّث عن التقبّل:
استراتيجية التقبّل :  
مالم يتقبّل الفرد أحداث الحياة بغضّ النظر عن نوعها فسيشعر بالقلق والتوتر والكآبة في مراحل متقدمة، الأحداث الحياتية محايدة لا تحمل صفة ولا لون بل نحن من يعطيها الصّفة  ويقوم بتلوينها، والتلوين هو التفسير، ما يصيبنا من أحداث هو من طبيعة الحياة، هكذا أراد الله وهكذا جبلها سبحانه وتعالى وينبغي أن يعلم الفرد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنّ قدر الله نافذ على الجميع، وفي هذه المرحلة من المهم بمكان أن يتقبّل الفرد قضاء الله وقدره بتسليم وانقياد تامّين لأمر الله سبحانه وتعالى، يقول الإمام بن الجوزي رحمه الله: "ليس في التكليف أصعب من الصبر على القضاء ولا فيه أفضل من الرضا به فأما الصبر فهو فرض وأما الرضا فهو فضل، وإنما صعب الصبر لأن القدر يجري في الأغلب بمكروه النفس، وليس مكروه النفس يقف على المرض والأذى في البدن بل هو يتنوع حتى يتحد العقل في حكمة جريان القدر" صيد الخاطر ، 92 ، ومن التقبل أن لا تفكر في الماضي لا تقل لماذا حصل معي ما حصل بل قل ماذا ينبغي عليّ أن أفعل الآن لتجاوز هذا الواقع .. الحفر في الماضي لن يزيد الأمر إلاّ تعقيداً انطلق إلى  المستقبل، من أجمل القواعد في التقبّل التي تعلّمتها في حياتي مبدأ الكينونة والعالم.. العالم هو الخارج هو البيئة وفيها يحدث قدر الله وقضائه أما الكينونة فهو أنت أيها الإنسان أنت تملك اختيار ردة الفعل تجاه القدر الذي حصل لك .. هل أنا مخيّر أم مسيّر؟ .. أنا مخيّر في الكينونة ومسيّر في العالم أي أنني من يحدد استجابته تجاه القدر الذي حدث في العالم في الكون ومسيّر في هذا العالم خرجت صباحاً في سيارتك فجاء من صدم سيارتك من الخلف فحادث السيارة عالم أي كون أي قدر وهو واقع بأمر الله عليك بإمكانك أن تهدأ وباختيارك أن تغضب  وتشتم وتضرب هذا كينونة هذا اختيارك هذه ردة فعل وهو بيدك من اختيارك وليست بيد الآخرين (فقاعدتي في الحياة أنا أسير في الكون وأختار من الكيان)، وأنقل لك أخي الكريم .. أختي الكريمة أروع ما قرأت للإمام ابن القيم رحمه الله عن التقبل .. يقول رحمه الله: (للعبد أحد عشر مشهداً فيما يصيبه من أذى نكتفي بأول سبعة منها لعلاقتها باستراتيجية التقبل وهي:
أولها: مشهد القدر: أن يعلم أنّ ما جرى عليه بمشيئة الله وقضائه وقدره فيراه كالتأذي بالحر والبرد والمرض والألم، وهبوب الرياح فإنّ الكل أوجبته مشيئة الله  فما شاء الله كان ومالم يشأ لم يكن فإذا شهد هذا استراح فما للجزع منه وجه حينها فهو كالجزع من الحر والبرد والمرض والموت.
ثانيها:  مشهد الصبر: فيشهده ويشهد وجوبه وحسن عاقبته وجزاء أهله وما يترتب عليه من الغبطة والسرور بعد الصّبر.
ثالثها: مشهد العفو والصفح والحلم: فإنه متى ما شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته لم يعدل عنه إلاّ العشى في بصيرته فإنه مازاد الله عبدا بعفو إلاّ عزّا كما ورد ذلك عن المعصوم.
رابعها: مشهد الرضا: وهو فوق مشهد العفو والصفح وهذا لا يكون إلا للنفوس المطمئنة، وهذا شأن كلّ محبّ صادق يرضى بما يناله في رضا محبوبه من المكاره ومتى تسخّط به وتشكى منه كان ذلك دليلاً على كذبه في محبته، قال الشاعر:
ولو قلت طأ في النار رضا لك .... أو مدن لك من وصالك
لقدّمت رجلي نحوها فوطئتها .... سروراً لأني قد خطرت ببالك
خامسها: مشهد الإحسان: وهو رفع مما قبله وهو أن يقابل إساءة المسيء بالإحسان فيحسن إليه كما أساء هو إليه.
سادسها: مشهد السلامة وبرد القلب: وهذا مشهد شريف جداً لمن عرفه وذاق حلاوته وهو أن لا يشغل قلبه وسره بما ناله من الأذى بل يفرّغ قلبه من ذلك ويرى أن سلامته وبرده وخلوه أنفع له وألذّ وأطيب فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهمّ عنده وخير له منه، المؤمن  يحيا بين أمرين يسر وعسر وكلاهما نعمة لو تأمل ففي اليسر يكون الشكر قال تعالى: ( لئن شكرتم لأزيدنكم) وفي العسر يكون الصبر: (إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب)، والإيمان نصفه شكر ونصفه الآخر صبر هذا هو مخّ التقبّل، وأنقل لك أخي الكريم .. أختي الكريمة أروع ما كتب عن التقبل قاله الإمام العارف بالقلوب ابن الجوزي رحمه الله في كتابه المبدع صيد الخاطر: "ليس في الدنيا أبله ممّن يريد معاملة سبحانه وتعالى على بلوغ الأغراض فأين تكون البلوى إذن؟ لا والله لابد من انعكاس المرادات، ومن توقف أجوبة السؤالات، ومن تشفّي الأعداء في أوقات، فأمّا من يريد أن تدوم له السلامة والنصر على من يعاديه والعافية من غير بلاء فما عرف التكليف ولا فهم التسليم، أليس الرسول عليه الصلاة والسلام ينصر يوم بدر ثم يجري عليه ما جرى يوم أحد، أليس يمنع عن البيت ويقهر بعد ذلك، فلا بد من جيد ورديء، والجيد يوجب الشكر والرديء يحرك إلى السؤال والدعاء، فإن امتنع الجواب أريد نفوذ البلاء والتسليم للقضاء وهو هنا بين الإيمان، ويظهر في التسليم جواهر الرجال فإن تحقق التسليم باطنا وظاهرا فذلك شأن الكامل" صيد الخاطر ، 262.
                                                                             يتبع..

د.خالد محمد المدني

خبير القيادة من المركز الأمريكي للشهادات المهنيّة

رئيس مجلس إدارة منظّمة أكسفورد للتدريب القيادي OLTO.

دكتوراه الإدارة من جامعة السودان الحكوميّة للعلوم والتكنولوجيا

للتواصل مع الدكتور خالد المدني

ch@olto.org

الاثنين، 16 يناير 2017

تكيّف (2) / الدكتور خالد بن محمد المدني


من مقالات الدكتور خالد محمد المدني

 

تكيّف مع الحياة وتعلّم التفاؤل (2)



نواصل في هذه التدوينة بإذن الله الحديث عن التكيّف مع الابتلاءات التي قدّرها الله على عباده وكيف نتصرّف إزائها ونتحرّك لرفعها..
  • تشير معظم الدراسات الحديثة والتي ثبت معظمها طبيّاً  بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ ما يدور في ذهن الإنسان من أفكار تؤثّر على جسده وصحته سلباً أو إيجاباً، فالعقل والجسم جزآن لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، فأفكارك تؤثر على صحتك النفسية والجسدية، فإن كانت أفكارك التي تدور في ذهنك سلبية ربما أثّرت على جسدك وأضعفت جهاز المناعة لديك وجعلتك أكثر عرضة من غيرك على الإصابة بالمرض، فعلى سبيل المثال في قصة الأعرابي الذي عاده النبي عليه الصلاة والسّلام تملّكته صورة ذهنية سلبية بأنه سيموت، ولو ارتسمت له صور الشفاء والعافية لكانت صحته تحسّنت، جسدك يتأثر  بالصور الذهنية التي تنشأ فيه فإن كانت إيجابية زادته صحة، وإن كانت سلبية أصابته بالعلل والأمراض النفسية كالإكتئاب، والتوتر، والقلق، أو جسدياً كالسّكر والضغط وغيرها من أمراض العصر، شهد الغرب في السنوات الـ 10 الأخيرة ظهور علم جديد في عالم الطب يسمّى "علم المقاومة النفسية العصبية" يجمع هذا العلم بين ثلاثة مجالات:
  • الأول: مجال المتخصصين في علم النفس، والثاني: مجال المتخصّصين في مجال علم الاجتماع، والثالث: المتخصصين في دراسة كيمياء جهاز المقاومة في الإنسان، خلاصة الدراسات في هذا المجال أثبتت أن تحسّن صحّة الإنسان الجسمية مفتاحها تغيير أفكاره، ومشاعره، وانفعالاته حتّى وصف العلماء هذه الظاهرة بالثورة الثالثة في الطبّ الحديث حيث كانت الثورة الأولى تطوّر الجراحة، والثورة الثانية: اكتشاف البنسلبين، ما يؤثر بالفعل على صحّة الفرد هو صوره الذهنية التي يحملها فعندما يتخيّل هذا المرض أو ذاك فتّاكاً أو قاتلاً يتدمّر جهاز المناعة لدى الإنسان ما يقتل في كثير من الأحيان ليس المرض هي الفكرة، ولذلك قال أرسطو: (ليس الذي ينفعل هو النفس أو الجسم بل الإنسان)، وهذه عبارة غاية في الأهمية والتشخيص الدقيق لما يحصل مع الفرد، ونقل عن فيلسوف روماني في القرن الميلادي الأول قوله: "ليست الأشياء المحيطة بالإنسان هي التي تزعجه، بل أفكاره عن هذه الأشياء"، ولذلك نستطيع أن نقول أن الجسم السليم هو نتاج العقل السليم، أعتقد أنّ كل إنسان في هذه الحياة معرّضاً لأنواع شتّى من الأمراض العضوية أو النفسيّة فالجميع على هذه البسيطة يحتاج إليها لأننا نسير في هذا الكون و لا نعلم ما قدره الله علينا من اختبارات وابتلاءات، فأنا أسير في الكون وأختار في الكيان يمعنى أن ما قدره الله عليّ لا أملك تجاهه إلاّ التسليم له بقلب مؤمنة ونفس راضية كما أخبر الله: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنا إليه راجعون)، وأمّا الكيان فهو أنا فأنا أستطيع اختيار طريقة التعامل ونوع رد الفعل تجاه الكون تجاه القدر الذي قضاه الله عزّ وجل..


يتبع ..

د.خالد محمد المدني

خبير القيادة من المركز الأمريكي للشهادات المهنيّة

رئيس مجلس إدارة منظّمة أكسفورد للتدريب القيادي OLTO.

دكتوراه الإدارة من جامعة السودان الحكوميّة للعلوم والتكنولوجيا

للتواصل مع الدكتور خالد المدني

ch@olto.org