الاثنين، 20 فبراير 2017

تكيّف (5) / الدكتور خالد بن محمد المدني



من مقالات الدكتور خالد محمد المدني

 

تكيّف مع الحياة وتعلّم التفاؤل(5)





في هذه التدوينة سنختم الحديث بعون الله عن السلسلة التي بدأناها بعنوان تكيّف وسأتحدث عن التأطير الإيجابي وهو قلب المحنة إلى منحة والعذاب إلى عذوبة والألم إلى أمل رائدنا في ذلك  حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: " عجباً لأمر المؤمن إنّ أمره كلّه له خير، وليس ذلك لأحد إلاّ للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر فكانت خيراً له، وإن اصابته ضرّاء صبر فكانت خيراً له" رواه مسلم، هذا ما نسميّه في علم التنمية البشرية بالتأطير الإيجابي ونقصد بالتأطير الإيجابي أن تنظر لما وراء الحدث الذي حصل لك فلكلّ حدث وجهان، وجه سلبي، وآخر إيجابي وهذا ينطبق حتى على المرض بنوعيه العضوي والنفسي، فللمرض وجهان سلبي وإيجابي لكنّ كثيراً من النّاس لا يرى من الكوب الممتليء نصفه إلاّ الجانب الفارغ منه، في التأطير الإيجابي يجب أن تعلم يامن ابتلاك الله بالمرض أنّ الخيرة فيما اختاره الله، الذي يمايز بين المؤمنين الإيجابيين في الحياة هي مواقف الشدّة وليس الرخاء، ففي الرخاء لا فضل لأحد أن يفخر بتماسكه وهدوءه بل الفخر كل الفخر في التماسك وقت الشدة، فقد يكون في المرض باب للتوبة والعودة إلى الله وهذا من أعظم الفضل، يجب أن ننظر للمرض نظرة مغايرة عن النظرة التي شاعت وانتشرت في المجتمع خاطئاً، فالمرض ابتلاء وفي الابتلاء تهذيب وليس تعذيب قال بن القيم رحمه الله: إنّ الله لا يبتلي ليعذّب بل يبتلي ليهذّب، قابلت كثيراً من الناس في التدريب وفي جلسات المساندة النفسية  فرأيتهم متشائمين من الأمراض التي أصابتهم، ولا ينظرون إلاّ إلى مستقبل يرونه سيئاً، فكنت أقول لهم: كم مرة وقع ما خفت منه وحذرته؟ وكم مرة وقع ما استبشرت به؟ فكان كلّهم بلا استثناء يعدد أحداثاً كثيرة طيبة حصلت له ويعدد حدثاً أو حدثين يراهما سيئين وقعا له، فكنت أقول لهم: فلم التشاؤم إذن؟ لا أبالغ أخي الكريم .. أختي الكريمة .. أنّ التشاؤم مرض يصيب الأفراد كما يصيبهم مرض السكر والضغط، بل إنني أراه مرضاً خطيراً أخطر من الأمراض التي يسميها الطب الحديث مستعصية، العرب كانوا يتفاءلون بالمرض فكانوا يسمّون الكسير جبيراً، واللّديغ سليماً تفاؤلاً بالشفاء، وديننا دين التفاؤل والاستبشار (التفاؤل من الرحمن والتشاؤم من الشيطان)، فمن أين جاءنا التشاؤم؟ لاشك انه من البرمجة السلبية التي تعرضنا لها في حياتنا من إعلام، ووسائط تربية، والأهم من ذلك من أنفسنا من تفسيراتنا الخاطئة للأحداث التي تحصل لنا .. لا تخشى شيئاً أخي الكريم .. أختي الكريمة .. لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، الحياة الحقيقية عند الله في جناته وقرب نبيه عليه الصلاة والسلام، أما الدنيا فهي متقلبة متلونة بأهلها فيها نعيم وكدر، المهم أن لا تنال الأحداث منك ومن نظرتك التفاؤلية .. المهم أن لا تنال من صورتك  الذهنية عن حقيقة ما أصابك من ابتلاء،  تفاؤلك هو نتاج حسن ظنك بالله وصدق توكلك عليه (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)، وتشاؤمنا من سوء ظننا به سبحانه، ابتسامتك ملكك .. سعادتك وتعاستك أنت من يصنعها .. عالمك الداخلي هو المهم .. صورتك الذهنية هي الأهم .. أنت سيّدها وأنت من يأمرها فتأتمر وينهاها فتنتهي .. أنت من ينشأها ويبدلها ويحوّرها ويجعل لها أكثر من معنى .. أنا جنّتي في صدري أينما ذهبت فهي معي .. عن أي جنة كان يتحدث ابن تيمية شيخ شيوخ الإسلام وهو سجين في بئر قلعة دمشق؟ ابن تيمية كان يحدثنا عن عالمه الداخلي الذي شكّله واختاره، وعن المعاني العميقة التي اعتنقها وآمن بها، فالقتل شهادة والنفي سياحة والسجن خلوة .. شكل صورة فغير عالمه من خلالها وأجبر الآخرين على الرضوخ لهذا العالم، يقول الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله "إذا أراد الله بعبد خيراً ألقاه في ذنب يكسره به ويعرفه قدره ويكفي به عباده شره وينكس به رأسه ويستخرج منه داء العجب والكبر والمنة عليه دم عباده فيكون هذا الذنب أنفع لهذا من طاعات كثيرة ويكون بمنزلة شرب الدواء ليستخرج به الداء العضال كما قيل بلسان الحال في قصة آدم وخروجه من الجنة بذنبه" تهذيب مدارج السالكين ج (1) ، 269.
أخي الكريم .. أختي الكريمة .. ثق بالرحيم الذي ما أعطاك ليحرمك وما ابتلاك ليعذّبك وما زادك لينقصك، وضع بين عينيك (لئن شكرتم لأزيدنكم)، الله لطيف بعباده ومن لطفه بهم أنه يخفف  ابتلائه عليهم ويلهمهم لسلوك طريق العودة إليه فيكون الابتلاء سبب للمنفعة لا جالبا للمضرة، ومن تأمّل في دقائق الإبتلاء وفوائده يعلم يقيناً أنه طريق التمكين والرفعة، فهو المحك الذي يخرج العبد أفضل ما لديه من قدرات، امتحانات الدنيا أخي الكريم .. أختي الكريمة هدفها الترقية والرفعة فالله يبتلي ليهذب لا ليعذّب..ضع هذه الرسالة دوماً في ذهنك وأنت تواجه ابتلاءات الدنيا، أخي الكريم .. أختي الكريمة لا ىيسكن التشاؤم في وطن فيه أمل، ولا يحيا اليأس في قلب فيه تفاؤل، التفاؤل والأمل صنوان لا ينفصلان فالأمل ابن التفاؤل الشرعي، ثمة ضوء يتسلل إليك من النافذة انظر من خلاله، وتلمس الأمل فلا يأس يمكن أن يتقلب قلب مؤمن فالله أرحم بعباده من أنفسهم بأنفسهم ومن رحمته بهم أن لا يكلهم إلى أنفسهم، التفسير الإيجابي للحدث يضبط الصورة الذهنية السلبية ألم تقرأ قول الحق: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم)، ومن أجمل ما قرأت في التأطير الإيجابي ما قاله الإمام العارف ابن الجوزي رحمه الله: " أترى يظن الظّان أن التكليف غسل الأعضاء برطل من الماء أو الوقوف في محراب لأداء ركعتين..هيهات هذا أسهل التكليف، وإن التكليف الذي عجزت عنه الجبال ومن جملته أنني إذا رأيت القدر يجري بما لا يفهمه العقل ألزمت  العقل الإذعان للقدر فكان من صعب التكليف وخصوصاً فيما لا يعلم العقل معناه كإيلام الأطفال، وذبح الحيوان مع الاعتقاد بأن المقدر لذلك والآمر به أرحم الراحمين). صيد الخاطر،42

أخي الكريم .. أختي الكريمة بعد هذا البسط إذا كنت غير مقتنع فدعني أروي لك بعضاً من الشواهد والأدلة التي تؤكد هذا المعنى:
1.     (إذا أحبّ الله قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فعليه السّخط). رواه الترمذي، وفي رواية: (إذا أراد الله بعبد خيراً صبّ عليه العذاب صبّا)، إذن المرض والابتلاء دلالة خير وليس شر.
2.     عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (دخل على امرأة فقال: مالك ترفرفين؟ قالت: الحمى لا بارك الله فيها، قال: لا تسبّي الحمّى إنها تذهب خطايا بني آدم، كما يذهب الكير خبث الحديد). رواه مسلم.
3.     عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله عليه الصلاة والسّلام  قال: (من وعك ليلة فصبر ورضي عن الله تعالى، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه).
4.     عاد أبو هريرة رضي الله عنه مريضا فقال له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنّ الله عزّ وجل يقول: (هي ناري أسلّطها على عبدي المؤمن في الدنيا لتكون حظّه من النار في الآخرة). رواه أحمد في مسنده.
5.     عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي عليه الصلاة والسّلام قال: (ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا همّ ولا حزن، ولا أذى، ولا غمّ، حتى الشوكة يشاكها، إلاّ كفّر الله بها من خطاياه).متفق عليه.
6.     عن هلال بن بساق قال: كنا عند عمار بن ياسر فذكروا الأوجاع، فقال أعرابي: ما اشتكيت قط فقال له عمار: ما أنت منّا إنّ المسلم يبتلى ببلاء فتحطّ عنه ذنوبه كما يحطّ الورق من الشجر).
7.     كان أحد السّلف في جيبه ورقة صغيرة يخرجها دائماً فيقرأها وفيها: (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا). الطور، 48. وأختم هذه الإستشهادات بكلام نفيس لابن القيم رحمه الله: (فإن البلاء في الحقيقة ليس إلاّ الذنوب وعواقبها، والعافية المطلقة هي الطاعات وعواقبها، أهل البلاء هم أهل المعصية وإن عوفيت أبدانهم، وأهل العافية هم أهل الطاعة وإن مرضت أبدانهم). عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، صـ 81.
هذه النصوص وغيرها كثير أوردناها لكي نوصّل رسالة واحدة وهي أنّ إحدى استراتيجيّات التعافي من المرض أن يعتقد الإنسان أنّ في الشّر الذي يراه خلف هذا المرض خير عميم وفضل كبير من الله سبحانه وتعالى فقد يتحوّل المرض إلى منفعة وتنقلب المحنة إلى منح ربانيّة وعطايا إلهية، فكم من مبتلى وجد في هذا الإبتلاء أضعافاً مضاعفة من الخير، لم يعتقد أن يتحصّل عليها وهو سليم صحيح معافى الجسد، فاقلب أخي المريض المحنة إلى منحة واعلم أنّ النصر مع الصبر، وأنّ الفرج مع الشدّة، وأنّ بعد المرض صحّة بإذن الله، المهم أن لا ينال المرض من نفسيتك فيؤخّر الشّفاء، أعرف شخصاً ابتلاه الله بمرض السّكر حزن في البداية واكتئب، ثم أخبرني قائلاً: قال هل تعلم أنّي أحمد الله أن ابتلاني بهذا المرض الذي أعادني إليه سبحانه متضرّعاً متذللاً بين يديه، وجعلني أصحّح مساري في الحياة، وأغير 80% من سلوكياتي الشخصية والغذائية، وأصبح جسدي سليماً معافى ووزني مثالي، وانتصرت على نفسي فيقول: فأي خير بعد هذا وأي فضل أعظم من هذا.
                                                                                                                                                         انتهى

 

د.خالد محمد المدني

خبير القيادة من المركز الأمريكي للشهادات المهنيّة

رئيس مجلس إدارة منظّمة أكسفورد للتدريب القيادي OLTO.

دكتوراه الإدارة من جامعة السودان الحكوميّة للعلوم والتكنولوجيا

للتواصل مع الدكتور خالد المدني

ch@olto.org


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق