من مقالات الدكتور خالد محمد المدني
تنمية الإنسان عقلاً وروحاً وجسداً
تحدثنا في
التدوينة السابقة عن علاقة الروح والعقل بالجسد بتفصيل دقيق ونظرة علماء الإسلام
في ذلك ثم تطرقنا لرؤية المدرسة السلوكية الواقعية لوليم جلاسر واليوم نواصل
الحديث حول هذا الموضوع
وحقيقة لم يتفرّد
لا علم النفس بمدارسه المختلفة ولا حتى وليم جلاسر بل سبق إلى ذلك علماء المسلمين
منذ أربعة عشر قرناً فهذا شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في الفتاوى يشير
إلى هذا المعنى فيقول لايمكن على الإطلاق أن يتفق مافي الأعيان مع مافي الأذهان
ويقصد أنه لايمكن أن تتفق الحقيقة في الخارج مع الصورة الذهنية التي نشأت في دماغ
الإنسان، وكذلك تلميذه المتألق ابن القيم رحمه الله وخاصة فيما يتعلق بنموذج
الإنسان من فكرة إلى شعور إلى فسيلوجيا ومن ثم الفعل الذي هو السلوك، ودعونا نستمع
ونستمتع بنفس اللحظة لكلام هذا العالم النفسي الإسلامي الكبير يقول رحمه الله:
( دافع الخطرة،
فإن لم تفعل صارت فكرة، ودافع الفكرة فإن لم تفعل صارت شهوة فحاربها، فإن لم تفعل
صارت عزيمة وهمّة، فإن لم تدافعها صارت فعلاً، فإن لم تتداركه بضدّه صار عادة
فيصعب عليك الإنتقال عنها)
..الفوائد .. ابن القيم الطبعة المصرية 1344هـ ص 31، هل سمعتم كلاماً في الفكر
أعمق من هذا ابن القيم استطاع أن يرسم لنا نموذج الإنسان كما رسمه علم النفس
الغربي فهو يرى أن الفعل يمر بعدة مراحل كما يلي:
(1)
الخطرة: وهي
الصورة الذهنية التي تكونت من الحدث لكنها عند ابن القيم تأتي من الداخل أي أنها
إما متخيلة أو متذكرة من ألبوم الصور الداخلي المنشأ أو المتذكر.
(2)
الفكرة: وهي
المعنى الذي استخلصه الفرد من الخطرة وهي الحدث والخطرة والفكرة تساوي الأفكار عند
جورج ميللر ووليم جلاسر.
(3)
الشهوة: وهي
الفسيلوجيا أي الحاجات الجسدية وهنا ابن القيم يضيف إبداعاً إذ يرى أن الفسيلوجيا
تنشأ قبل المشاعر وهذا منطقي لأنها أسرع.
(4)
العزيمة: وهي
الرغبة في الفعل.
(5)
الإرادة: وهي
القرار بالعزم على الفعل.
والعزيمة والإرادة
في نموذج ميللر ووليم جلاسر تساوي المشاعر
(6)
الفعل: وهو السلوك
الصادر من الفرد.
ثم يضيف ابن
القيم رحمه الله:
(اعلم أن مبدأ كل
عمل اختياري هو الخواطر والأفكار فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعوا إلى
الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل وكثرة تكراره تعطي العادة فصلاح هذه المراتب
بصلاح الخواطر والأفكار وفسادها بفسادها).
ثم يواصل إبداعاته
وإشراقاته النفسية فيقول:
(فصلاح الخواطر
بأن تكون مراقبة لوليها وإلهها صاعدة إليه دائرة على مرضاته ومحابه فإنه سبحانه به
كل صلاح ومن عنده كل هدى ومن توفيقه كل رشد ومن توليه لعبده كل حفظ ومن تولي العبد
وإعراضه عنه كل شقاء وضلال).
ويستمر في الإبداع
النفسي فيقول:
( اعلم أن الخطرات
والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر، فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر فيؤديها إلى
الإرادة، فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل فتستحكم فتصير عادة فردها
من مبدأها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها).
ويواصل فيقول:
( ومعلوم أن
الإنسان لم يعط إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها فإنها تهجم عليه هجوم النفس
إلاّ أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له وعلى دفع
أقبحها وكراهته ونفرته منه)
ثم يختم بأروع كلام
قرأته عن السلوك الصادر فيقول:
(وقد خلق الله
سبحانه وتعالى النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لاتسكن ولا بد لها من شيء تطحنه
فإن وضع فيها حب طحنته وإن وضع فيها تراب طحنته .. فالأفكار والخواطر التي
تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط بل
لابد لها من شيء يوضع فيها فمن الناس من تطحن رحاه حباً يخرج دقيقا ينفع به
نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملاً وحصى وتبنا ونحو ذلك ! فإذا جاء وقت العجن تبيّن
حقيقة طحنه).
يتبع ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق